محاور جديدة لوعي الظاهرة الموسيقية
الإفاضة في موضوع الجمال الموسيقي وعلاقته بالتمثيل الدلالي وبالمعنى، وكل ما يحيط هذين من اهتمام في القيم الشكلية والتقنية، كانت سمة الاهتمام النقدي في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، ولم يبرز الاهتمام بالعامل الاجتماعي في دراسة التاريخ الموسيقي ولا بالعامل الثقافي (Culture) إلا في العقود المتأخرة. وهذا الاهتمام ينطوي على سعة أفق تشمل كل مناحي الحياة التي أصبحت، بفعل حداثتها، واضحة الفاعلية، فهناك الموسيقى واللغة، حيث «علم دلالات الرموز الموسيقية» و«علم الأصوات»، وهل الموسيقى تعبر عن عاطفة كالحب أو التّوق، بصورة يمكن تخصيصها، أم عن «العاطفة» في ذاتها، حيث لا يمكن التعبير عنها بلغة أخرى؟ (شوبنهاور). وهذا الحقل من علم الرموز الموسيقية كثير التعقيد والتخصص. لكن الحقل يتسع لإطلالة جديدة على علاقة الموسيقى بالجسد الإنساني وبالرغائب الغريزية الغامضة (التّوق اللحني ـ وصول الذروة ـ الإشباع أو النهاية في بناء شكل السوناتا)، وبالطابع التراكمي للبناء الموسيقي (أنثوي) والطابع الهرمي (ذكوري) وبعلاقة الموسيقى بالعنصر الإنساني (الإنسان الأسود، والإنسان الشرقي في الموسيقى الكلاسيكية)، كذلك يتسع لعلاقتها بالطبقات والشرائح الاجتماعية، وبالمعايير الجمالية الفردية التي تتحكم بالمواقف النقدية. وبمفهوم الموسيقى «الجدية» موسيقى النخبة، ومفهوم «الموسيقى الفولكلورية أو الشعبية»، ومفهوم «الموسيقى الجماهيرية».إن المفهومين الأولين واضحا الدلالة وقديمان، أما الثالث فهو ظاهرة حديثة نمت مع نمو ضخامة الإنتاج والاستهلاك الجماهيريين وموسيقاه، وهو ما يفصل بينه وبين المفهومين الأولين بصورة كلية. موسيقى تهدف إلى الربح. هذه الموسيقى الجماهيرية إنما تصنع لأسباب استهلاكية ونتيجة لذلك يجب أن تكون على مقاس مصالح الإنتاج الضخم. وهذه الصيغة للإنتاج تؤدي إلى انفصال تام بين منتجي هذه الموسيقى عن مستهلكيها. بحيث يصبح المستهلك ليس أكثر من مادة سلبية تستغل ببراعة وبلا ضمير من قبل منتجي هذه الثقافة الجماهيرية. ولا ينخدع القارئ العربي بالحديث عن الطبيعة الاستهلاكية وكأنها خصيصة غربية بحتة. فنحن نملك أيضاً، القليل القليل من الموسيقى الجدية، والكثير من الموسيقى الشعبية الرائعة التي بدأت تتلاشى تحت عجلات «الموسيقى الجماهيرية»، الاستهلاكية الكاسحة التي تغطي اليوم كل منافذ الحياة العامة. إنها موسيقى تهريج يراد منها الربح وحده، وتسخر لها كل وسائل الإنتاج الضخم والإعلام الضخم، وحتى الإعلام الرسمي المنتفع بصورة تكاد تكون مباشرة.كل هذه، التي أشرت إليها إشارات خاطفة، هي محاور علوم تخصصية في الشأن الموسيقي. فالموسيقى مصدر معرفة شأنها شأن الفن والأدب والفلسفة. وربما تكون هذه المعرفة جمالية في جوهرها، لكن هذه الجمالية ليست شكلية بالمعنى التقني، بل الشكل الذي يطوي المعنى في نسيجه من دون فاصل. الشكل الذي يجسد «عاطفة في ذاتها» بتعبير شوبنهاور. وهي، أيضاً، محاور كتاب صدر حديثاً عن دار Oxford. تحت عنوان «الموسيقى.. الثقافة والمجتمع»، أشرف على تحريره وكتب مقدمته الموسعة دريك سكوت، رئيس قسم الموسيقى في جامعة سالفورد.
الكتاب في خمسة أبواب «الموسيقى واللغة»، «الموسيقى والجسد»، «الموسيقى والطب»، «الموسيقى والنقد»، و«الإنتاج والاستهلاك الموسيقي». وكل باب يضم مختارات مقتطفة من أهم ما كتب بشأن محوره من قبل متخصصين. لذلك تبدو قراءة الكتاب أشبه بسياحة رائعة الفائدة وخفيفة الظل في آن. لأن المقتطفات لا يتجاوز أطولها الصفحات الست، ومحاورها جديدة تماماً ووافية في إعطاء صورة عن التساؤلات والإجابات الممكنة التي تستثيرها الموسيقى وتاريخها في ذهن المستمع إليها والمعني بها. كالتساؤل حول إذا ما كان تقسيم الموسيقى إلى تجارية وغير تجارية هو تقسيم جمالي أو أخلاقي. أو إذا ما كان ربط الموسيقى ممكناً بالتحرك الاجتماعي، من حيث تطورها ونمو تياراتها الجديدة، كما ربط أدورنو، مثلاً، كلاسيكية سترافنسكي الجديدة بطلوع الفاشية (التضحية بالفردية لصالح الجماعية)، أو توماس مان حين أشار إلى العلاقة بين موسيقى شوينبيرغ الطبيعية وبين صعود النازية، أو صعود الولايات المتحدة كقوة كبرى وبين مساهمتها المتحمسة باتجاه تعزيز مواقع «الحداثة» في الرسم والموسيقى خاصة، كما يشير إلى ذلك «سكوت» في مقدمته.
إن علاقة السلطة السياسية بالموسيقى ونمو اتجاهاتها الطليعية دفعت «سكوت» إلى تأمل ما يحدث في فرنسا. فالسلطة الفرنسية تطمح في أن تجعل فرنسا قائدة ثقافية لمرحلة ما بعد تسعينات القرن الماضي. وهذا أمر طبيعي، ولكن المثير للانتباه أن السلطة بدأت تجني ثماراً على صعيد قواها العسكرية منتفعة، مثلا، من مؤسسة IRCAM، التي خطط لها الموسيقي الطليعي بوليز وأصبحت جزءاً من مركز بومبيدو الثقافي في باريس. فالمخابر والاستديوهات التي أسسها بوليز لتكون للاختبار والبحث في تقنيات التأليف الموسيقي الحديث، وصلت منافعها بشأن الصوت إلى القوة البحرية وقوة الطيران، التي احتفظت بمعلوماتها واعتبرتها سرية. ويرد هذا التعليق لكاتب التقرير: «حتى لو أن IRCAM فشلت في إنتاج موسيقى عظيمة إلا أنها ضمنت الانتصار في الحرب العالمية المقبلة». ولذلك يبدو التساؤل قائما حول ما حققه بوليز لموسيقى القرن العشرين، لكن ما حققه للقوة العسكرية الفرنسية يقيني.
غنى هذا الكتاب وتنوعه يجعلانه خير دليل لهذه المحاور الموسيقية الجديدة جداً.